فصل: الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم:

وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية فإذا اصطنع أهل العصبية قوما من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «مولى القوم منهم» وسواء كال مولى رق أو مولى اصطناع وحلف وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر وفقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم فإذا تمددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال وهذا شأن الموالي في الدول والخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها وتعدد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس وإلى بني برمك من قبليهم وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتا وشرفا بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه لا بالانتساب في الفرس وكذا موالي كل دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف فكان شرفه مشتقا من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته وإنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة ولحمة الاصطناع فيها والتربية وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبته ودولته فإذا ذهبت وصار ولأوه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها وانتفع بالثانية لوجودها وهذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم ولما صاروا إلى ولاء بنى العباس لم يكن بالأول اعتبار وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له والوجود شاهد بما قلناه لم {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والله ورسوله أعلم.

.الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء:

اعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته ولا من أحواله والمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات الإنسان وغيره كائنة فاسدة بالمعاينة وكذلك ما يعرض لها من الأحوال وخصوصا الإنسانية فالعلوم تنشأ ثم تدرس وكذا الصنائع وأمثالها والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كرامة به وحياطة على السر فيه وأول كل شرف خارجية كما قيل وهي الخروج عن الرئاسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث ثم إن نهايته في أربعة آباء وذلك أن باني المجد عالم يما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه وابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتيهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصيته ويرى الفصل له عليهم وثوقا بما ربي فيه من استتباعهم وجهلا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا تحطمت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأن ومباشر له ومقلد وهادم وهو أقل ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء قال صلى الله عليه وسلم «إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد وفي التوراة ما معناه أن الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث والروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب وفي كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة قال نعم قال بأي شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم تصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري وهم بيت قيس وآل ذي الجدين بيت شيبان وآل الأشعث بن قيس من كندة وآل حاجب بن زرارة وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم وخطبوا ونثروا فقال كسرى كلهم سيد يصلح لموضعه وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم ومعهم بيت بني الذبيان من بنى الحرث بن كعب اليمني وهذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب والله أعلم.